" جريمة الإسماعيلية " ...حين يقتل الغياب الأسري طفولة بأكملها
بقلم: وليد سلامة – استشاري تربوي
في حيّ شعبي بسيط هزّت جريمة الإسماعيلية الأخيرة ضمير المجتمع المصري، بعد أن تحولت صداقة طفولية بين طفلين "يوسف" و"محمد" صديقين يلهوان ويقضيان وقتيهما بين المدرسة وصالة الألعاب. إلى مشهد دموي لا يُصدَّق. طفل في الثالثة عشرة يقتل صديقه، ويقطع جسده بمنشار والده، مستلهمًا تفاصيل جريمته من مشاهد سينمائية ملوثة بالعنف. مشهد لم يأتِ من فراغ، بل هو نتاج مباشر لانهيار المنظومة القيمية والنفسية التي يعيشها بعض أطفالنا في صمت، دون أن يلتفت إليهم أحد.
الأمر لم يكن وليد لحظة غضب عابرة، بل نتاج تراكمات من الإهمال، والعزلة، والتأثر المَرَضي بمشاهد العنف، وسط غياب الوعي الأسري والتربوي.
البيئة التي أنجبت المأساة
التحقيقات كشفت عن خلفية أسرية مضطربة يعيشها المتهم؛ أب منشغل بالعمل لساعات طويلة، وأم بعيدة بزواج جديد، وطفل يقضي ساعات وحدته أمام الشاشات، يتغذى على صور القتل والدم والانتقام، حتى فقد الإحساس بقدسية الحياة الإنسانية.
هذه ليست قصة يوسف وحده، بل قصة آلاف الأطفال الذين يربّيهم الإعلام، وتؤدّبهم الشاشات، وتُشكل عقولهم الألعاب والدراما العنيفة دون رقابة.
الدراما التي تقتل من وراء الشاشة
حين يصبح مسلسل مثل Dexter أو فيلم دموي مليء بالتقطيع والعنف مادة يومية لطفل لا يتجاوز 13 عامًا، فليس غريبًا أن تتشوّه لديه مفاهيم الرحمة والندم.
الخطورة أن هذه الأعمال تُقدَّم له في صورة بطولة، وذكاء، وانتقام مشروع، فيغيب الخط الفاصل بين الخيال والواقع، ويبدأ الطفل في تقليد ما يراه باعتباره «مشهدًا مثيرًا» لا جريمة مروّعة.
مسؤولية مشتركة.. لا متهم واحد
يوسف ارتكب الجريمة، نعم، لكنه لم يكن وحده ، شاركه فيها غياب الأب، وصمت الأم، وفوضى الإعلام، وانعدام الرقابة التربوية، واستهانة المجتمع بالعنف النفسي الموجّه للأطفال.
كل بيت يترك ابنه أمام الشاشة دون توجيه، وكل منصة تبث مشاهد القتل دون تصنيف عمري، وكل مدرسة تهمل التربية الأخلاقية والنفسية لصالح الحفظ والدرجات… جميعهم أسهموا – دون قصد – في صناعة "يوسف" آخر.
الدرس الذي يجب ألا ننساه
هذه الجريمة ليست حادثًا معزولًا، بل ناقوس خطر يدق بقوة ، وعلينا أن نعيد التفكير في:
دور الأسرة: في الاحتواء، والمراقبة، والإنصات لأبنائها قبل أن يُنصتوا إلى الشاشات.
دور المدرسة: في بناء وعي وجداني وأخلاقي، لا مجرد تلقين معلومات.
دور الإعلام: في وقف تسليع العنف، ومنع المحتوى الدموي من الوصول إلى المراهقين.
دور المجتمع: في حماية الطفولة من الانهيار النفسي الذي قد يبدأ بلعبة وينتهي بجريمة.
كلمة أخيرة
يوسف ومحمد لم يكونا مجرمين بالفطرة، بل طفلين ضاعا في زحام الإهمال، أحدهما فقد حياته، والآخر فقد إنسانيته.
تلك الحادثة يجب ألا تمر كخبر عاجل، بل كجرس إنذار نعيد من خلاله صياغة علاقتنا بأطفالنا، فكل دقيقة يقضيها طفل وحده أمام شاشة بلا توجيه… قد تكون بداية قصة مأساوية جديدة.